تسجل

"خطوة صغيرة لرجل، قفزة عظيمة للإنسانية"

"خطوة صغيرة لرجل، قفزة عظيمة للإنسانية"
"خطوة صغيرة لرجل، قفزة عظيمة للإنسانية"

تحوّل نيل آرمسترونغ، المهندس الهادئ المنعزل، إلى بطل عالمي حقق قفزة عظيمة في تاريخ الإنسانية بخطوة صغيرة خطاها على سطح القمر. لقد توفي الرجل المتواضع الذي سلب ألباب العالم عن عمر يناهز اثنين وثمانين عاماً. فقد أعلنت عائلته يوم السبت وفاته متأثراً بمضاعفات جراحة في القلب، غير مفصحين عن مكان وفاته بالضبط.
في تاريخ 20 تموز من عام 1969، قاد آرمسترونغ سفينة أبولو 11 الفضائية التي حطت على سطح القمر، مكللاً أعظم رحلة علمية في القرن العشرين بالنجاح. ولا تزال كلماته الأولى بعد أن وطئ القمر مؤرخة في كتب التاريخ وفي ذاكرة من سمعها عبر البث المباشر.


"هذه خطوة صغيرة لرجل، وقفزة عظيمة للإنسانية".
في غضون تلك الدقائق القليلة الأولى على سطح القمر أثناء السباق الفضائي المحموم مع الاتحاد السوفياتي سابقاً، توقف آرمسترونغ في "لحظة تاريخية" كما سمّاها، خلد فيها روّاد الفضاء السوفيات ورواد فضاء ناسا، الذين ضحّوا بأرواحهم لإنجاز هذه المهمة.
وقد قال آرمسترونغ في حديث مع محاور تلفزيوني أسترالي عام 2012 : "كانت لحظة خاصة لا تنسى، ولكنها لم تدم طويلاً، فقد كان بانتظارنا الكثير من العمل".
سار نيل وإدوين باز ألدرين قرابة ثلاث ساعات على السطح الفضي، وهما يجمعان العيِّنات ويقومان بالتجارب ويلتقطان الصور، إذ قال نيل ذات مرة: "كانت المشاهد بديعة جداً، لم أرَ مثلها في حياتي قط". توَّجت تلك الخطوة النصر الأميركي في حرب الفضاء الباردة التي نشبت في الرابع من تشرين الأول عام 1957 بعيد إطلاق الاتحاد السوفياتي قمر سبوتنيك 1 الصناعي بوزن 184 باوند. ولكن بالرغم من أنه طيار في سلاح البحرية، وخبير في المركبات الفضائية في ناسا، ورائد فضاء، لم يكن من محبي الشهرة والمجد. فقد صرح في شباط عام 2000 أثناء ظهور علني نادر: "لست سوى مشجع لفريق وايت سوكس ومعجب بحامل الأقلام، ومهووس بالهندسة، لكنني أفتخر بإنجازاتي المهنية التي حققتها".
ظهر على الملأ عام 2010 بعد قلقه حيال سياسة باراك أوباما التي حولت الأنظار عن العودة إلى القمر وركزت على تطوير الشركات الخاصة للسفن الفضائية. لقد أدلى بشهادته أمام الكونغرس، وصرح في بريد إلكتروني أرسله إلى وكالة أسوشيتد برس قائلاً           "تحفظات أساسية" تزامناً مع وصفه السياسة المتبعة بأنها عرض تضليلي لإجبار ناسا على التخلي عن العمليات الفضائية البشرية في المستقبل.


عندما ظهر عام 2003 في دايتون للاحتفال بالذكرى المئة لتاريخ الطيران، صعد إلى المنصة وخطب بعشرة آلاف متفرج لثوانٍ معدودة ولم يأتِ على ذكر القمر، مكتفياً بالتواري عن الأنظار بسرعة. لكن بعد ذلك انضم إلى رائد الفضاء السابق سين جون غلين في وضع أكاليل الزهور على أضرحة ويلبار وأورفيل رايت، ليعلن غلين أن أربعة وثلاثين عاماً مرت مذ وطئ آرمسترونغ سطح القمر، فأجاب نيل وكأنه لم يفكر بالأمر من قبل: "شكراً يا جون، أحقاً مرت أربعة وثلاثون عاماً؟"
وفي ظهور آخر لهما تعانقا وعلَّق غلين قائلاً: "إنه الرجل الوحيد على الارض الذي لا أزال أحسده حتى اليوم!".
كان سير آرمسترونغ على القمر بمثابة تتويج لسلسلة من النجاحات التي تمثلت في قيادة صاروخ X-15 ورسو أول سفينة فضائية في بعثة جيميني  8التي تضمنت هبوطاً طارئاً ناجحاً.


انسحب آرمسترونغ بعد سنوات ليعود إلى صفوفه ومزرعته جنوب أوهايو، إذ ذكر ألدرين في كتابه المعنون "رجال من الأرض" أن آرمسترونغ كان من أكثر الناس الذين عرفهم خصوصية وهدوءاً.
وفي المقابلة الاسترالية أقرَّ نيل: "أحنّ أحياناً إلى متعة الجلوس في مقصورة الطيار وتجربة أمور جديدة".


وفي الذكرى الأربعين للرحلة، وصف الصراع الفضائي قائلاً: "إنها المنافسة الأكثر سلاماً، فالصراع المحتدم بين أميركا والاتحاد السوفياتي آنذاك منحنا فرصة التطور والتحدي في العلم والاكتشاف".
وقد وصفه غلين الذي خاض مع آرمسترونغ تدريب الأدغال كجزء من برنامج رواد الفضاء بأنه بارع بشكل استثنائي في ما يخص الأمور التقنية ولكنه خجول ولا يحب الأضواء. أما ديريك إليوت القائم على مؤسسة سميثسونيان الأميركية ومتحف الفضاء بين عامي 1982 و1992 فقد قال إن السير على سطح القمر هو أعظم الاستكشافات الفضائية، وإنه إكليل غار على رأس الولايات المتحدة التي كانت حبيسة الصراع المحموم مع الاتحاد السوفياتي في العلم والتكنولوجيا، وحقيقة أننا كنا جزءاً من الإنجاز تعني أننا شاهدين فعليين على تاريخنا.


حقق هبوط عام 1962 المغامرة التي رسمها الرئيس كينيدي عام 1961 بعيد أن أصبح ألان شيبارد أول أميركي يصل إلى الفضاء ضمن رحلة قصيرة دامت خمس عشرة دقيقة، جاءت رداً على دوران يوري إي غاغارين السوفياتي حول الأرض قبل شهر.
قال كينيدي: "ينبغي أن نكثف جهودنا لتحقيق هدفنا  بالهبوط على سطح القمر والعودة سالمين إلى الأرض قبل انتهاء العقد الجاري، وأعدكم بأن هذا المشروع سيكون نقلة في تاريخ الإنسانية وفي الاستكشافات الفضائية في ما بعد، وسنذلل كل الصعوبات حتماً".
وبعد ذلك بفترة وجيزة أعلن آرمسترونغ بعد هبوطه على القمر أن "النسر قد حط" لترد قاعدة هيوستن "روجر، سلام، إننا نتابعكم على الأرض، يا إلهي نحن نتنفس ثانية بعد أن كدنا نموت، شكراً جزيلاً".
أثناء تجول آرمسترونغ وألدرين على السطح الفضي، دار صديقهما الثالث مايكل كولينز حول القمر بسفينة كولومبيا على ارتفاع 60 ميلاً.
وبين عامي 1969 و1972 وطئ اثنا عشر أميركياً سطح القمر. وهذا ما جعل الأميركيين يحتفون بالصعود إلى القمر كإنجاز فاق حرب فيتنام ونزاع الشرق الأوسط وغرق امرأة في حادث سيارة خرجت عن مسارها على جسر خشبي في جزيرة تشاباكويديك على يدي سين. جاء الهبوط فيما كان التحضير لمهرجان الروك الأسطوري في مزرعة كاتسكيلز في نيويورك قائماً.


ولد نيل آرمسترونغ في الخامس من آب 1930 في مزرعة قرب واباكونيتا غرب أوهايو، استقل الطائرة أول مرة في عمر السادسة حيث افتتن بالطيران وبدأ ببناء طائرات صغيرة وتجربتها في قناة تهوية منزلية الصنع. عمل في شبابه في صيدلية وأخذ دروساً في الطيران، وفي عمر السادسة عشرة حاز رخصة للطيران قبل أن يحصل على رخصة قيادة السيارات. درس هندسة الطيران والفضاء الجوي في جامعة بوردو، إلا أنه انضم إلى خدمة العلم في البحرية الأميركية عام 1949 ليقود 78 مهمة حربية في كوريا. وبعد انتهاء الحرب، تخرَّج آرمسترونغ من جامعة بوردو ونال شهادة ماجستير في هندسة الطيران والفضاء الجوي من جامعة جنوب كالفورنيا. أصبح في ما بعد طيار اختبار في ناسا، وقاد أكثر من مئتي نوع مختلف من الطائرات. وفي عام 1962 اختارته ناسا كثاني رائد فضاء بعد أن اختارت غلين عام 1959، وأعلنت عن بعثة جيميني 8 عام 1966. وبعد أول رسوّ فضائي، أعاد الكبسولة في هبوط طارئ في المحيط الهادئ بعد أن أبعدتها النيران التي شبّت عن المدار. وفي عام 1968 كان آرمسترونغ قائداً احتياطياً لمهمة أبولو 8 التاريخية التي دار أثناءها القائد فرانك بورمان وجيم لوفيل وبيل أندريس حول القمر عشر مرات ممهّدين للهبوط الذي تم بعد سبعة أشهر.
أعلن ألدرين أنه وآرمسترونغ لم يكونا عاطفيين، بل "على سطح القمر جاءت اللحظة القصيرة التي تبادلنا فيها النظر وربت كل منا على كتف الآخر، وقلنا لقد نجحنا، ياللروعة".
شكَّل 600 مليون شخص، أي خُمس سكان المعمورة، ممن شهدوا الحدث، أكبر جمهور في تاريخ البشرية.


عام 1970 نُصِّب آرمسترونغ وكيلاً مساعداً لعلم الطيران في ناسا، إلا أنه استقال في السنة التالية ليعمل مدرِّساً لهندسة الطيران والفضاء الجوي في جامعة سينسيناتي. وبقي هناك حتى  1979 بعد أن اشترى مزرعةً في لبنان بمساحة 310 فدادين، زرع فيها الذرة وربى الماشية. وتوارى عن الأنظار باستثناء بعض المقابلات والخطابات.
قال زميله في جامعة سينسيناتي رون هيوستن: "لم يكن يُجري المقابلات، إلا أنه لم يكن شخصاً غريباً بل ودود جداً لا يرغب في أن يكون مركز الاهتمام".
يقول المقربون منه إنه كان يحب لعب الغولف مع أصدقائه، وناشطاً في منظمة YMCA (جمعية الشبان المسيحيين)، ويرتاد دائماً مطعماً واحداً في لبنان ليتناول غداءه فيه.
عام 2000، عندما وافق على إعلان أفضل عشرين إنجازاً هندسياً في القرن العشرين، بعد تصويت أكاديمية الهندسة الوطنية، صرَّح آرمسترونغ بأن ثمة خيبة أمل واحدة لسيره على القمر وهي: "أقول بصدق، وكانت هذه مفاجأة كبيرة بالنسبة إليّ، إنني لم أحلم قط بالصعود إلى القمر".


عمل آرمسترونغ مديراً لشركة تشارليتسفيل في فرجينيا بين عامي 1982 و1992، وهي شركة تختص بتقنيات حواسب الطيران وإدارة أنظمة معلومات الحواسب، ليصبح بعد ذلك مدير شركة "أول سيستيمز" للأنظمة الإلكترونية في دير بارك، نيويورك.
تزوج نيل من كارول نايت عام 1999 وعاشا في إنديان هيل، وهي ضاحية في سينسيناتي، ولديه صبيان شابان من زوجة سابقة.