لم تكن الظروف التي مرّت بها المنطقة العربية خلال العامين الماضيين عادية، كما لم يكن انعكاس التغيرات السياسية على المجتمع والاقتصاد العربيين بسيطاً: تبدّلات جذرية وتاريخية في بلدان الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، رافقها ارتفاعٌ خطير في معدلات البطالة بين الشباب، باتت الأعلى عالمياً، وشحٌّ كبير على صعيد الفرص الاقتصادية المتاحة أمام الفئة النابضة في المجتمع، وغيابٌ في السياسات الضامنة لتوظيفهم وريادة أعمالهم... وكل ذلك وسط انعدام للأفق السياسي وشلل تام في الشارع، لا يوحيان بانطلاق أي دخان أبيض في القريب المنظور.
انطلاقاً من هذا الواقع الملبّد، وبحثاً عن الحلول الممكنة، كان لمجموعة من ممثلي الحكومات العربية ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص والمنظمات الدّولية ومراكز الأبحاث ومجتمع المانحين وقادة الشباب ووسائل الاعلام، لقاء جماعي في المؤتمر الإقليمي السنوي "الشباب العربي وريادة الأعمال ... نحو بيئة محلية حاضنة" في فندق هيلتون - الدوحة، برعاية صاحبة السموّ الشيخة موزا بنت ناصر، وتنظيم مؤسسة "صلتك" والمعهد العربي لإنماء المدن، وبالتعاون مع الشراكة العالمية لتوظيف الشباب والبنك الدولي وبرعاية شركة "شل".
دعم مبادرات ريادة الأعمال لدى الشباب العربي وتنسيق الجهود التي تبذلها الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص لهذا الغرض، كان الهدف الأبرز من المؤتمر الذي دام ثلاثة أيام، بحثاً عن صيغ "لدمج الشباب العربي وتمكينهم وتعزيز خبراتهم وقدراتهم وخلق فرص تنمية مستدامة"، بحسب ما جاء في الكلمة الافتتاحية للرئيس التنفيذي لمؤسسة "صلتك" طارق محمد يوسف، الذي أعرب عن أمله "في بروز شراكات حقيقية كفيلة بالنهوض بالشباب العربي والمجتمعات ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً، من خلال الحوارات المفتوحة والأفكار الجريئة والمبتكرة".
لم يكتف المؤتمر بتبادل الخبرات والتجارب بل عرض أيضاً خطوات ملحوظة على طريق تعزيز ريادة الأعمال كالتي نتجت عن المعهد العربي لإنماء المدن بدعم من البنك الدولي في كل من طرابلس اللبنانية وحلب وتونس والقاهرة لجهة تدريب الشباب على مهن وحرف تقودهم الى سوق العمل بنجاح.
استوقفت "رائد" جلسة "بناء التحالفات بين القطاعين الحكومي والخاص ومؤسسات المجتمع المدني" التي نوقش خلالها بإسهاب النموذج اللبناني الطرابلسي، حيث يكبّل الشلل الأمني والسياسي نسبة كبيرة من الشباب وحيث تعتبر ريادة الأعمال بحاجة ماسة الى التنشيط.
"كيف يسهم القطاع الخاص في مساعدة الشباب اللبناني والشمالي؟". سؤال أجاب عنه رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس وشمال لبنان توفيق الدبوسي معتبراً أنه "إن لم تكن هناك بيئة مهنية معافاة فلن تكون هناك أعمال ناجحة". ويقول "كان للغرفة مشاريع عدة في تنمية الاقتصاد الشمالي، كما كان لبرنامج المعهد العربي لإنماء المدن في طرابلس وقع إيجابي اقتصادي واجتماعي. أعتقد أنه يجب تطوير القطاعات بين ثلاثية القطاع الخاص والعام والمجتمع المدني لصالح التنمية. ما نعمل عليه هو استيعاب أفكار الشباب ومساعدتهم ليصبحوا شركاء مع آخرين لهم امكانيات مادية لكن لا يملكون الطاقات والأفكار". وعن كيفية مساعدة الغرفة للشباب عملياً، يضيف الدبوسي "يتقدّم الشباب إلينا بمشاريع أعمال يطمحون لتحقيقها. ندرس هذه المشاريع وجدواها الاقتصادية ونسعى لتوجيههم وبلورة أفكارهم بدون أي مقابل مادي. وعندما يصبح المشروع قابلاً للتنفيذ، نجلب لهم دعماً مصرفياً بأقل فوائد ممكنة او مشاركات مادية من جهات أخرى، وهي الحال في معظم الأحيان. نحن أيضاً من نسجّل لهؤلاء الشباب أعمالهم الاقتصادية في غرفة التجارة والصناعة والزراعة في المنطقة كما في وزارة الاقتصاد لقوننة أعمالهم".
انفتاح القطاع الخاص على أفكار الشباب بحسب الدبوسي "يحث الشركات على الاستثمار"، إلا أن للقطاع العام الممثل بالسلطة المحلية في المناطق دوراً رئيسياً في تسهيل هذه الاعمال أو عرقلتها.
يقول رئيس اتحاد بلديات الفيحاء في لبنان نادر الغزال إن "البلديات تتعاون مع المجتمع المدني والمعهد العربي لإنماء المدن، لدمج الشباب في الحركة الاقتصادية في المجتمع. قمنا بإعداد معايير الفقر الحضري وكيفية مكافحته في مدن الفيحاء. وأوضحت الأرقام أن 55 في المئة من المواطنين في المنطقة من الفئة العمرية الشبابية (اقل من 24 عاماً) وأن 40 في المئة من الشباب لا يصلون تعليمياً الى مستوى الثانوية، و35 في المئة من عمالة الاطفال في لبنان ككل تتمركز في المنطقة هذه". ويضيف الغزال "تحرّكنا لانشاء مكتب تنموي لمتابعة المشاريع التي من شأنها رفع مستوى العمل الاقتصادي الشبابي، وحصلنا على وعد بتمويل معهد مهني يدرّب الشباب على حرف معينة، كما قمنا بشراكة مع غرفة التجارة والصناعة والزراعة سعياً وراء التكامل، بين ما تمثله الجهة الرسمية من قدرات قانونية وما يمثله القطاع الخاص من موارد مالية (كالغرفة، ومؤسسة الصفدي وغيرهما). هذا الثنائي مضموماً الى الطاقات الشبابية هو أهم ركيزة للنهوض بالمدن".
ما تقدّم به المعنيون من ايجابيات وآمال لا يلغي كون طرابلس مدينة تعيش على فوهة بركان سياسي وأمني بفعل تأثرها الحتمي بجوارها السوري وداخلها الطائفي. ملاحظة واقعية طرحها "رائد" على الاستشاري لدى المعهد العربي لإنماء المدن إيلي مخايل الذي أكد أن "العمل الاجتماعي يستمر حتى في حالات الطوارئ.. ببساطة، لا يمكن أن نقف متفرّجين. هناك مقدرة لدى اللبنانيين على التكيّف بالاوضاع، والجمعيات الاهلية ناضجة وهي قادرة على اتخاذ زمام المبادرة محلياً. نحن لا نقوم بتغيير جذري بل نبادر لتمكين الشباب ومساعدتهم على التمسك بفرص عمل تقيهم الاعمال الانحرافية".
في طرابلس، شباب مسلّح وبطالة مرتفعة وفقر واسع. قد لا تكون هذه العناصر واقع كل طرابلس الا انها تمثل فئة ملحوظة من المدينة. فما الذي قد ينشل شباب المنطقة من هذا النمط اليومي بحثاً عن العمل؟ تقول الناشطة في المجتمع المدني في طرابلس-الفيحاء ريم المصطفى لـ"رائد" إن "الوضع الامني لا يؤثر على ارادتنا كما ان الامور ليست تماماً كما يرويها الاعلام. أدخل باب التبانة على سبيل المثال يومياً لمتابعة جهودنا فيما التوتر يكون في الليل". المصطفى التي أطلعت حضور المؤتمر على تجربتها في طرابلس حيث سعت جمعية "واي دبليو أف" الى دمج الشباب بسوق العمل عبر تدريبهم مهنياً خلال وقت قصير، شرحت أن التدريب كان في الأغلب مع فتيات من المنطقة لمدة 3 اشهر في ميادين ثلاثة: الضيافة، الطبخ، والتسويق. الإحباط والضغوط الاجتماعية المحيطة بالفتاة الشمالية كانا ابرز عائقين لعمل الجمعية، لكن إصرار بعضهن على شق طريقهن المهنية كان معزياً، حيث بات بعضهن يطبخ في البيت سعياً وراء المردود المادي.
"التعامل مع الذكور كان شبه مستحيل خصوصاً أنه كان من الصعب بالنسبة إليهم انتظار مدة 3 اشهر لحصد المكافأة المالية علماً بأن هذا التدريب سيقودهم في النهاية الى مكان افضل" بحسب المصطفى، التي اشارت الى أن جذب الشباب الى العمل لا يكون إلا بالبديل المادي المسبق، الامر الذي يحتاج الى استراتيجية مساعدة مُعدّة بإحكام.
"رائد" جال على بعض التجارب العربية الاخرى كالسودان ومصر حيث الاوضاع الاقتصادية للشباب سيئة حالياً.
تقول عضو المكتب التنفيذي لرابطة الشباب السوداني في قطر نهى محمد إن "اجتماع الجنسيات المختلفة وتفاعلها بعضها مع بعض في هذا المؤتمر امر ايجابي جداً ويحمل الامل لنهضة الشباب العربي". عن الشباب السوداني، تؤكد محمد أنه "في بحث عن قوته اليومي وخصوصاً الخرّيجين. لا يقدّم السودان اليوم انشطة تشجع الشباب على ريادة الاعمال. وحملات المساعدة في هذا المجال شبه معدومة"، مضيفة ان "الظرف الامني والاقتصادي والسياسي ومستوى التعليم المتدني يساهم في إحباط الشباب". على المستوى الشخصي، تؤكد محمد استفادتها من افكار المؤتمر خصوصاً لجهة تنمية عملها الاقتصادي حيث لديها محلّ ثياب سودانية في الدوحة وتبحث عن التقدّم المالي.
مي جاب الله، ممثلة شبكة هيئة انقاذ الطفولة في مصر، تقول لـ"رائد" إن "المجتمع المدني في مصر يعمل في سياق ثورة مستمرة وحالة اعتراض تسود الشارع. وهذا الواقع حافز لنا وللحل. إن انخراط اطفال الشوارع في التوتر والشباب في الاحتجاجات نابع من أسباب كثيرة أهمها اقتصادي". وتتابع "ارى ان الوقت الحالي هو المناسب لنهضة الشباب الاقتصادية عبر السماح للشباب بتصميم المبادرات الفردية وتغيير المفهوم الابوي بين الدولة والفرد بل تكريس مفهوم الشراكة". جاب الله تؤكد ان دور المجتمع المدني رئيسي في عملية نقل الحراك الشارعي الى اماكن آمنة عبر برامج تأهيلية يختار خلالها الشباب المهن التي تناسبهم.